كتبت - حسين ابراهيم
كتاب مكون من مائة وثلاث صفحات يحتوي على عشرين قصة قصيرة، كل قصة لأسير فلسطيني يعتبر الإصدار السابع للأديبة ومجموعتها القصصية الثانيةبعد مجموعتها الأولى(قيامة امرأة)
عادة القاص يأخذ عنوان كِتابه من احدى قصص مجموعته. وقد اخذت الكاتبة عنوان القصة الأولى التي أهدتها للأسير المحرر القائد تيسير البرديني كما جعلتها عنوان الكتاب، و العنوان على شكل صورة بلاغية موحية جدا، تحمل ظاهر و باطن كوسيلة لجذب القارئ لمجموعتها. هي صهوة الشمس ورمز الثورة الانسانية على كل أشكال الظلم، وهي تمنح الرمزية العظمى لنور الشّمس التي لا يستطيع أن يصلها أحد ولا يعتليها، لكن ايحاء كلماتها كان ثوري مختلف، يتسرب إلى أعماق القارئ، لتأخذ وجدانه في سياحة أدبية و متعة روحية رغم مذاق العلقم. ومع كل ما تحمله من إيحاء، يمكن تفسيرها بما تتميّز به المرأة عادة لطبيعتها الأنثوية، و ما يخفيه المجتمع أو ربما تشمل حتى الرجل. أميل أكثر إلى الطرح الأول، لأن صاحبة المجموعة روائية في الأساس، تركت تجربة من وجعها الخفي، و هي ربما لا تدري بتسربه إلى أوراقها، بَصمتها الداخلية مبثوثة في سردها سواء بطريقة عفوية أو ارادية.
كتبت القاصة في مواضيع ربما لم تخطر على بال القارئ، فكرة بسيطة و مشاعر عفوية لا نوليها أهمية عادة، سجلتها و تخيّلت لها حدث و عقدة و أضفت عليها من خزان أعماقها، جعلتها حية نابضة في ذهن القارئ، يندهش قائلا في نفسه: كل هذه الشحنة العاطفية في أمر يكاد يكون لا شيئ، كل هذا يدل على مدى تمكن القاصة من أدواتها الإبداعية القصصية، و حسن استعمالها لتصل إلى عمق القارئ بالضرب على موضع حساس وهو يمس كرامته و ثوريته كما في قصتها (على صهوة الشمس)
تستعمل الرمزية بوقعها الجميل و المجاز بأثره الرائع، استعملتهما في قصتها ( النسر والبندقية)، وهي تصف حجم المرأة في هذا العالم بتضامنها مع الاسيرات كما في قصة (الفراشة والنور) وقصة (كأنه حلم)، و (بين نورين). و تتشبث بالثوابت كما في قصتها (تحت حد الكلمة)، (تمرّد)، (عصيان)، (مذكرات على أوراق الأثل)، (ستة أقمار وليل)،(مراكب الغد)، (القرار)،(جنين)، (بارود على أوراق الياسمين)، (في حضرة الغياب)، (حتى لا تغيب الشمس)، (ألف حياة)، (أسير واحد)، (هذه الوردة لأمي) هذه هي عناوين القصص التي وردت في المجموعة والتي يلاحظ أنها تثير الانتباه و توقظ الفضول في قلب القارئ.
مثال: قصة (قوافل الملح والريحان) العنوان فيه إيحاء قوي جدا على ما حدث، و يحدث في بلاد الاحتلال كما توضح التفاعلات بين السلطة وشعبها.
من أهم ما يلفت انتباه القارئ قدرة الأديبة على إلهامه لكتابة قصة أخرى، خاصة اذا كان صاحب قلم و موهبة، تشحذ أدواتها الإبداعية تهجم بها عليه فيستسلم لقصصها. مباشرة من بداية القصة تجعله في قلب الحدث، بين رحى العقدة، فينفعل بها و يتفاعل وجدانيا معها، فيصير كالأسير إلى نهاية القصة و يزداد اندماجه بذلك الوصف الجذاب، كأن الحدث أمام عينيه يتفرج عليه، كل هذا يُظهر لنا براعة الكاتبة في كيفية التأثير على القارئ و تحريك عاطفته و هز فكره.
التشبيه حاضر في بعض قصصها، استعملته بطريقة ذكية، ليجنبها السرد الزائد، و يقرّب من ذهن القارئ ما تريد قوله بطريقة فيها كثير من الأدبية، جعلته في مقاطع سردية قصيرة مؤثرة بصياغة بليغة و كأنها تحفة فنية مصورة بريشة فنان. تعمّدت ذلك لمزيد من التأثير، و وقوف القارئ عندها و إعادة قراءتها، وسأركز هنا على قراءة معمقة في قصة(النسر والبندقية) لأنها من أكثر القصص التي لفتت انتباهي بروعتها و التي أدهشتني بطريقة صياغتها .
قصة النسر والبندقية:
المكان هو بين الأرض و السماء أي في الفضاء وقد تكون رمزية لمكان عام قد يكون في أية بقعة من مدينة أو وطن، والشخصيات الرئيسية أربعة هي الريح والنسر والعصفورة والبندقية. لكن قد نكتفي بالنسر والعصفورة .
القصة تقوم على السرد بصيغة الحوار، ولعل هذه الصيغة من أجمل صيغ السرد في كتابة القصة، وذلك لما تمنحه من خيال رائع يحلق بنا للأسمى .
القصة تقوم على فكرة، والفكرة حصانٌ جامحٌ، يقودها حوذي ماهر هو خيال الأديبة ..
بدايةً؛ العنوان " النسر والبندقية" ، عنوان ملفت للنظر، يُعمِل خيال القارئ، ما المقصود منه؟ وما الذي تريد الاديبة قوله؟
من هنا يبدأ عامل الجذب والاستقطاب، قصةٌ تحدث في أي مكان من الفضاء، وعصفورة زرعت الحب والفكر الحر في عقول صغارها علمتهم قيمة أن نحارب لأجل مبدأ حتى لو اضطروا للطيران عكس اتجاه الريح لأجل هذا المبدأ . وكيف علمتهم؟ توجد الأديبة الطريقة التي استخدمتها العصفورة لتشد عود صغارها و تقويهم في وجه مصاعب الحياة وهذه الطريقة هي أنها تركتهم للريح وكانت من طريقة اقوى من أن يعيشوا هذه التجربة ليشتد عودهم ويصبحوا أقوياء وقد نشأ منهم نسر صلب قاس يبحث عن أمه بعد أن تحرر من البندقية التي ربته على القسوة وعندما وجد أمه كانت في غاية القوة .
أما عن العامل الاكثر ادهاشا في القصة فهو اللغز، فقد ظلت الكاتبة متمسكة بعنصر التشويق و شحذ فضول القارئ لكل تفاصيل هذا اللغز ومحاولة ربط الأحداث حتى تكشف لنا في النهاية عن المفاجأة و هي أن هذا النسر هو ابن العصفورة و هي أمه التي عاش يبحث عنها وهنا يتجلى عامل المفاجأة للقارئ وحل اللغز الذي كان يحاول إيجاده طوال القصة ، ان هذه القصة تدل بشكل واضح على مهارة الأديبة في تطويع اللغة وعبقريتها في طريقة سرد القصة وكتابتها، مما يجعلنا نعتبرها طفرة في الكتابة الإبداعية للقصة القصيرة .
أما عن جماليات القصة ؛ فهي أنها قامت على جملة من المفارقات، التي شدّت عقل القارئ وخياله معا .
ومنها بداية القصة حيث استهلت الأديبة قصتها بعبارة على لسان العصفورة للنسر :( إذا أردت أن تحاربني فلتركب الريح فإن إرادتي باتت عديمة التوقير)
وحديث الريح النسر :(ماذا نظن الله فاعل بمن عاشوا يزرعون الحب ويحصدونه في كل موسم ليزرعون به حبا اكبر، ماذا نظن الله فاعل بمن عاشوا لأجل غيرهم و نسوا أنفسهم ...الخ)
وتدخل الأديبة قصة أخرى داخل القصة الأساسية عندما كتبت (طار النسر يرفرف فوق شبابيك الحكايات ..... ) حتى عبارة (زوجة تحتضن أطفالها وتزرع أرضهم وقلوبهم بالحب ثم جاءت الريح و خلعت الجدران والبيوت لتنقشع عن طفل يجري لاهيا ويقول : اتذكر أنني رأيت أمي تتمزق مع الريح وهي تحارب لأجل معانقتنا)
وحديث الام وطفلها :( قالت له : أخشى أن تتغير الخارطة وتشتد الريح فتحول دون عناقي لك مرة أخرى ..
أمسك بيديها و قال : اطمئني يا أمي، سأجدكِ مهما اشتدت الريح، لن تعجزني المساحات ولن يوقفني تبدل الخارطة .)
وعودة النسر للريح ليسالها عن قصة العصفورة قبل أن يكتشف انها أمه وسؤاله المندهش( هل تنجب العصافير نسورا؟) ووصف الريح لقصة العصفورة التي وضعت ثلاث بيضات على هامة الشجرة .....الى آخر العبارة )
وختام الريح قصتها للنسر بعبارة :( يهلل الناس في مدينتنا لعصفورة تعلم أطفالها فن الطيران ضد اتجاه الريح)
والمقصود انها لا تعلمهم بالطريقة التقليدية لأنها تركت صغارها واختفت حسب القصة ولكنها تعلمهم باقوى انواع التعليم. تعلمهم بالنقل. بالموقف. بالتجربة. ونحن نرى في القصة أن قسوة البندقية لم تصنع شخصية النسر القوية. وان ما صنع شخصيته هو ما يتذكره عن أمه ومواقفها وهو ما ٱلت إليه شخصيته في النهاية بعد أن نضج . وهنا نستذكر معلومة مهمة وهي أن القسوة لا تصنع رجلا بل الحنان هو صانع الرجال. فالقسوة تصنع شخصيات ضعيفة ومحطمة داخليا. وهذه طريقة حكيمة من طرق التربية قد يستخدمها الحكماء.
هذه الأحداث المتتالية بدقة وانتظام، كانت تتالى، الحادثة تلو الحادثة، كما تتالى عين القارئ النظرة تلو النظرة، سباق العينين للحروف وللكلمات من أجل الوصول إلى معرفة الخاتمة .
تلك المفارقات، وتلك الدهشة، وتلك الخاتمة الصادمة المؤثرة، أكسبت النص جمالية كبيرة.
ولا تتحقق تلك الأشياء؛ من الدهشة والجذب والمتابعة الحثيثة لجزئيات القصة وحروفها، من خلال الفكرة وحسب، فالشكل عامل مهم وضروري ..
ولاتقوم الفكرة من غير الشكل، الشكل المتجسد باللغة والأسلوب، وأدوات الربط، والخيال، واختيار مفردات معينة دون أخرى، والإيجاز في التعبير .
و قد ذكرنا من المفردات والجمل الانشائية الجميلة التي ظلت تحلّق صورها في خيالنا على مدار القصة.
ولعل الخاتمة التي انتهت بعبارة (يهلل الناس في مدينتنا لعصفورة تعلم أطفالها فن الطيران ضد اتجاه الريح )
ورد النسر بكلمته الأخيرة : (. لها الفضل الكبير )
والعبرة المستفادة من هذه القصة ليست عادية انها (حكمة) عظيمة يتوقف عندها القارئ وهي رحلة طويلة من التمسك بالكلمة الواحدة تنتهي بالانتصار.
الكاتبة تمسك بقبضتيها جيداً على النص، وتدرك بدقة مسافة الأمان التي تجعل قراءها يتشوقون لحروفها .
تعليقات: 0
إرسال تعليق